الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة تقييم عام للدورة 75 من مهرجان "كان" السينمائي: الجزء الأول- إعادة العائدين

نشر في  04 جوان 2022  (08:39)

بقلم الناقد السينمائي طاهر الشيخاوي- مراسلنا من مهرجان كان

الجزء الأول-إعادة العائدين

طبعا لا يمكن بأي حال أن يكون تقييمنا شاملا ضافيا للدورة 75 لمهرجان كان السينمائي نظرا لعدد الأفلام المبرمجة في المهرجان (القائمة الرسمية، نصف شهر المخرجين، أسبوع النقاد، جمعية السينما المستقلة من أجل توزيعها (أي ما يقارب 130  فيلما) اذا اعتبرنا كل الأقسام. كلامنا يهمّ ما تمكّنا من مشاهدته، أي كلّ أفلام المسابقة الرسمية وجلّ أفلام قسم "نظرة ما" وعدد من الأفلام العربية والإفريقية وبعض الأفلام الأخرى.

أول ما يمكن ملاحظته هو رجوع المهرجان إلى نسقه العادي، نسق 2019. اذ شهدت مدينة "كان" الحيويّة التي عرفتها قبل الكوفيد، مع نوع من الغليان أحيانا.

أجمع الملاحظون على أنّ المستوى العام للأعمال المشاركة في المسابقة الرسمية كان متوسطا أو فوق المتوسط دون بروز عمل محدّد. كما لاحظ الجميع ضعف نسبة الأفلام الآسيوية، الصينية منها بالخصوص. ربما يكون ذلك راجعا للسياق السياسي المتوتر بين أوروبا الغربية و روسيا. في المقابل يمكن ملاحظة ارتفاع عدد الأفلام القادمة من البلاد العربية والإسلامية كتونس والمغرب ومصر ولبنان وايران وباكستان.

فيما يخصّ المسابقة الرسمية، هناك طبعا أصدقاء المهرجان، الأخوان دردان، دافيد كرونمبيرغ، كريستيان مونجو، بارك شان ووك، كوري ايدا هيروكازو، قيم ثابته، يؤكّد اختيارُهم وفاء المهرجان لخطّ "فني" لا يجرأ الحياد عنه خشية الضياع. وهناك وجوه أخرى، جديدة كالسويدي طارق صالح والإيراني سعيد رستايي.

في خصوص الأصدقاء، الوفاء هنا يطبق على الأخوين داردين في فيلميهما "توري ولوكيتا"، الوفاء لذاتهما. طفلان، فتى وفتاة، قادمان من إفريقيا، يقدمان نفسيهما على أنهما أخوان، يتعرضان إلى مظالم مجتمع غربي لا يرحم. كالعادة كانت المعالجة واقعية، خالصة من شوائب العمل الفرجوي والمؤثرات الدرامية. شريط مؤثر يطرح قضية في غاية من الأهمية، يجد المشاهد نفسه أمام القالب ذاته، أمام نفس الأسلوب، كأنما حكم على الحكاية أن تخضع لماكينة سينمائية محدّدة مسبقا. يمكن أن نقول نفس الشئ بالنسبة إلى آرنو دي بليشان الفرنسي.

 

هنا أيضا يتعلق الأمر بـ"أخ وأخت" (وهو أيضا عنوان الشريط) ولكن أخ وأخت حقيقيان، وخلافا لشريط الأخوين داردين، لا تربط بينهما علاقة مودّة ولكن علاقة كراهية، كراهية حقيقية ومزيّفة، كراهية غريبة كانعكاس للمحبة، من خلالها يعمّق دي بليشان نظرته المتشائلة حول العلاقات العائلية ورهاناتها الإبداعية. يكرّر دي بليشان نفسه أيضا فلا يفاجئ من يعرفه من المشاهدين سلبا بالنسبة إلى البعض أو إيجابا بالنسبة إلى البعض الآخر.

نكاد نقول أن الأمر لا يختلف كثيرا فيما يتعلق بدافيد كرونمبيرغ لو لم يحمل شريطه "جرائم المستقبل" قسوة ممزوجة بشئ من الدعابة الخفية. فيلم من جنس الخيال العلمي نتابع فيه أطوار شخصية ينتج جسدُها باستمرار أعضاء سرطانية تَعرضها صديقته كأعمال فنية،

Une espèce de parabole allégorique de l’art sous la forme d’un autoportrait

© Nikos Nikolopoulos

بالرغم مما فيه من مباشرتية رمزية يبقى "جرائم المستقبل" من الأفلام الجديرة بالإهتمام.

أما المخرج الكوري بارك شان ووك في "قرار المغادرة"  فقد لاحظ النقاد، على حق، أنه تجاوز التبسيط الذي ميّز أعماله السابقة، فمن الواضح أنّ المسافة الفاصلة بين شريطه "الآنسة" و"قرار المغادرة" كانت كبيرة خاصّة من حيث تليينه لجنس الفيلم ولجوئه اللافت إلى المزج بين المنحى البوليسي والجانب الحميمي العاطفي، ولكن يبقى العمل مهدّدا بالإنزلاق في الفرجوية الجوفاء.

لم يحض كوري ايدا هيروكازو كذلك بترحيب كبير من لدن الصحافة النقدية بسبب انزلاقه في السهولة والتزويق، لم يبتعد عن مواضيعه المعهودة، الروابط العائلية ومشاكلها، في "بروكر" الذي يروي قصّة امرأة تخلصت من رضيعا فوضعته أمام كنيسة ثم سارعت في الرجوع إليه، ولكنها لاحظت أنّ شخصين حملاه فالتحقت بهما وتابعتهما في مساعيهما لـ"بيعه" حتى انتهت المغامرة في اتجاه سعيد مغاير للنوايا الأولى للشخصين. بالرغم من مهارة المخرج، وقدرته على التأثير على المشاهد لم يتمكن من التعمق في التمشي واكتفى بإعادة انتاج ما عرف به دون إضافة تذكر...

خيبة الأمل جاءت أيضا من طرف كريستيان مونتجو المخرج الروماني الذي كان تحصل على السعفة الذهبية في "كان" سنة 2007  بفيلمه "4 اشهرو3 أسابيع ويومان" وجائزة السيناريو سنة 2012 ("من خلف التلال") وجائزة الإخراج سنة 2016 ("الباكالوريا"). واصل هو أيضا في تمشيه الواقعي الاجتماعي و"معالجته" لمواضيع حارقة. اختار هذه المرّة مسألة عدم قبول الآخر والعنصرية في قلب القارة الأوروبية. يرجع ماتياس إلى قريته في منطقة ترانسالفانيا تاركا عمله بعد تعرضه لمعاملة عنصرية في المانيا ولكنه لن يجد السكينة في هذا المكان حيث تعيش فيه العديد من الطوائف ولا تتعايش في سلام. يطرح قضية انكار الآخر ولكن بطريقة فجّة، قاتمة، تكاد تكون مغلقة... في نوع من الكسل الفكري والجمالي المؤسف.

أما شريط علي العباسي الذي كنا تعرضنا إليه في مقال سابق فلا حاجة لنا للتذكير بالعجلة والسطحية التي تناول بهما موضوع العنف المسلط على المرأة في ايران... انطباعنا هو أن بعض السينمائيين يعتقدون أن التعرض لقضية خطيرة وحارقة يكفي للحصول على رضا الجمهور والعدول على التفكير والإبداع.

ولكن لم تخلُ المسابقة الرسمية من أفلام أرقى مستوى، سنتوقف عليها في الجزء الثاني من تقييمنا.

-الصور من موقع مهرجان كان